في الواقع، لا يؤيد القرآن مثل هذا الطرح، فالقرآن يصرح في موضع منه: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}(الذاريات/56) أي أن غاية خلق الإنسان والموجود الآخر المسمى بـ(الجن) هي العبادة.
وربما كان هذا أمراً صعب القبول، فما معنى هذا الهدف؟ وما هي الفائدة التي تعود بها العبادة على الله؟ وهي حتماً ليست بذات فائدة له، لأن الله غني عن العالمين، لكن ما هي فائدتها العائدة على البشر ليخلق البشر لأجل العبادة. ولكن القرآن ـ على أي حال ـ يذكر هذا الموضوع بكل صراحة (أي أن العبادة هي غاية الخلق الإنساني).
وعلى العكس من النظرة السابقة التي تجعل الآخرة أمراً طفيلياً تبعياً، تصرح بعض الآيات بأنه لو لم تكن القيامة لكان الخلق عبثاً، وهذا يعني أنها جعلت بمنزلة الغاية. وقد تكرر هذا المفهوم في القرآن الكريم كثيراً. {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون}(المؤمنون/115).
والعبث يطلق على الشيء الذي لا غاية حقيقية له، وهو يأتي في قبال الحكمة. إن الانكار هنا بمعنى أنكم حسبتم أن لا حكمة في خلقكم، وأن ليس هناك غاية حكيمة، ولذا اعتبرتم هذه الخلقة عبث وخواء. ثم يأتي عطف البيان {وإنكم إلينا لا ترجعون} وهذا يعني أنه لو لم يكن هناك رجوع إلى الله فالخلقة عبث.
وإننا لنجد القرآن يكرر المقارنة بين مسألة القيامة من جهة، ومسألة كون الخلق بالحق، وعدم الباطل واللغو واللعب فيه من جهة أخرى، وهو في الواقع نوع من الاستدلال، ذلك أن أحد أنماط الاستدلال القرآني على الآخرة هو الاستدلال اللمي ـ حسب المصطلح المنطقي ـ ، بمعنى أنه بعد الإيمان بوجود إله لهذا العالم، وأنه لا يفعل عبثاً، وأن عمله إنما هو بالحق ولا مجال للباطل واللعب فيه، نعم، بعد الإيمان بأن الخليقة لها خالق حكيم، يأتي الإيمان بالرجوع إلى الخالق. في الواقع إن القيامة والرجوع إلى الله هي التي تبرر خلق هذا العالم وهذا ما يركز عليه التعبير القرآني. وإننا لن نعثر في القرآن الكريم على ما يوحي بأن الإنسان خلق ليعلم أكثر ويقدر أكثر لكي يصل إلى هدفه حين يعلم ويقدر، وإنما خلق الإنسان ليعبد الله، وإنما عبادة الله هي الهدف. فلو أن الإنسان علم وعلم أكثر، وقدر وقدر أكثر، ولم تكن في البين معرفة الله التي هي مقدمة العبادة، ولم تكن هناك عبادة لله، فإن الإنسان لم يخط على طريق هدف الخلقة ولا يُعد من وجهة نظر القرآن إنساناً سعيداً. أما الأنبياء فقد جاءوا ليوصلوا البشرية إلى السعادة وهي في نظرهم عبادة الله.
وبهذا المعنى فلن يكون الهدف الأصلي من الحياة في منطق الإسلام ـ بالطبع ـ شيئاً سوى المعبود، فالقرآن يريد صياغة الإنسان و لا غير، وأي شيء غير ذلك ليس إلاّ مقدمة لا أصالة له ولا استقلال، وليس هو الهدف الأصلي.
فالأيات التي تصف الإنسان الكامل، أو تتحدث على لسان هذا الإنسان، تعرف هذا الإنسان بأنه الذي حدد هدفه بوضوح واتجه نحوه وعمل لأجله، ويقول القرآن الكريم على لسان إبراهيم: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين}(الأنعام/79) و{إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}(الأنعام/162).
وتوحيد القرآن هذا ليس توحيداً فكرياً يعتقد الإنسان معه بأن مبدأ العالم واحد، وخالقه واحد فحسب، وإنما هو توحيد في المرحلة الخاصة للإنسان أيضاً، بمعنى أن الإنسان من الجانب العقائدي يعتقد بأن خالق العالم واحد لا شريك له. ومن جانب الهدف يصل إلى الحد الذي لا يرى هدفاً يستحق أن يستهدف إلا الله لا غير. وبالطبع تكون الأهداف الأخرى منبعثة ونابعة من هذا الهدف، فلا استقلال لها ولا أصالة وإنما تستمد من هذا الهدف وجودها، ذلك أن كل شيء في الإسلام يدور حول المحور الآلهي سواء من حيث الهدف من بعثة الأنبياء، أو من حيث الهدف الحياتي للفرد.
ولندرس الآن مسألة جعل العبادة هدفاً للخلق في القرآن: فعن الإنسان الكامل وعن هدفه الحياتي يقول القرآن الكريم: {إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}(الأنعام/162) فالإخلاص هو المقصود قبل كل شيء، والعبد المخلص هو الذي لا يجد في وجوده حاكماً غير الله.
وأما مسألة هدف الأنبياء فللقرآن فيها تعبيرات مختلفة. فهو يقول تارة: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً}(الأحزاب/45)، ويقول أخرى:{يخرجهم من الظلمات إلى النور}(البقرة/275)، وهذه بعض التعبيرات صريحة في دعوتها الناس للتعرف على الله، وأن الأنبياء هم حلقة اتصال بين المخلوق والخالق والرابط بينهما.