فلدينا هنا في الواقع ثلاثة أنماط من المنطق يجب أن نعرف القابل منها للقبول.
الأول: هو المنطق الذي عرضناه والذي يعتبر أن هدف بعثة الأنبياء هو إقرار العدالة بين الناس، فالحياة السعيدة ـ في الواقع ـ للناس هي في هذه الدنيا. ومسألة المعرفة والإيمان بالله والإيمان بالمعاد هي ـ تماماًَ ـ مقدمة ذلك، لأن العدالة لا تتم إلا بمعرفة الناس لإلههم وإيمانهم بالمعاد. فالإيمان مقدمة العدالة.
أما المنطق الثاني ـ فعلى العكس من ذلك ـ يؤكد أن الهدف الأصلي هو معرفة الله وعبادة الله هي الهدف الأصيل، والتقرب إلى الله هو الهدف الحقيقي، أما العدالة فهي هدف ثانوي، ذلك لأن البشرية لكي تصل إلى المعنوية وتفوز بها، عليها أن تعيش هذه الحياة الدنيا، ولأن الحياة الإنسانية لا تستقر إلاّ في ظل الشكل الاجتماعي المناسب، وهذا الشكل الاجتماعي لا يتم إلاّ باستقرار العدالة. فالقانون والعدالة هما مقدمتان لأن يقوم الإنسان في هذه الحياة الدنيا ـ باطمئنان ـ بعبادة الله. وإذا لم يكن الأمر كذلك فلا قيمة للعدالة.
وعليه فإن المسائل الاجتماعية التي نقول بأهميتها إلى هذا الحد، ونطرحها في مجال العدالة، هي هدف الأنبياء، ولكن لا الهدف الأولي وإنما الهدف الثانوي أي هي مقدمة لهدف آخر.
وهناك رأي ثالث، يتساءل: ما الداعي لأن نفترض ـ لبعثة الأنبياء وبالتالي للخلقة والحياة ـ هدفاً أصيلاً ونعتبر باقي الأهداف مقدميةً. فإن بالإمكان القول بوجود هدفين لذلك، وإنهم بعثوا لهدفين مستقلين عن بعضهما: الأول، لكي يكونوا واسطة الاتصال بين البشر وخالقهم وليعبدوا الله، والثاني: لاقرار العدالة بين الناس.
وليس أي من هذين الهدفين مقدمة للآخر بل كل منهما هدف أصلي، خصوصاً وإننا رأينا القرآن الكريم يذكر كلا الهدفين. فما المانع من أن يكونا هدفين أصليين ولا يكون أيٌ منهما مقدمة للآخر؟ ولهذا الأمر نظائر في مجالات أخرى تعرض لها القرآن فمثلاً نجد القرآن الكريم يؤكد على تزكية النفس كثيراً، أنه يؤكد على هذا التهذيب والتنمية النفسية كثيراً فيقول:{قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها}(الشمس/9). ففلاح الإنسان رهين تزكية النفس في نظر القرآن وهنا يقال: هل أن تزكية النفس هذه هي بنفسها هدف في تصور الإسلام؟ هل أن تزكية النفس هدف لحياة الإنسان وبعثة الأنبياء وخلقه الإنسان؟ أم أنها مقدمة؟ وإذا كانت مقدمة فهي مقدمة لأي شيء؟ هل هي مقدمة لمعرفة الله، ومقدمة للاتصال بالله وعبادته؟ هل هي مقدمة لإقرار العدالة الاجتماعية؟
ربما يقال أن الأنبياء جاءوا لهدف إقامة العدالة الاجتماعية، وأنه من الضروري لكي تقوم بين الناس أن تعتبر بعض الصفات التي لا تنسجم مع الحياة الاجتماعية رذيلة، والأخرى المنسجمة معها فضيلة، وحينئذ فلا بد للإنسان أن ينزه نفسه من الصفات التي لا تنسجم مع الحياة الاجتماعية ويخلصها من الحسد والكبر والعجب، وعبادة الذات والهوى وغير ذلك، ويزين نفسه بتلك الصفات التي تعتبر أخلاقاً اجتماعية، وتساعد على إقرار العدالة الاجتماعية مثل الصدق والأمانة والإحسان والمحبة والتواضع وغيرها.
أو قد يقال: إن تزكية النفس ـ أساساً وبقطع النظر عن أيِّ هدف آخر ـ هي بنفسها هدف مستقل؟
الطريق المستقيم
والآن أي هذه الآراء ينبغي قبوله؟ إننا نرى أن القرآن يرفض أي نوع من الشرك وبأي معنى كان. إنه كتاب توحيدي بكل معنى الكلمة:
* توحيدي بمعنى أنه يرفض وجود أي مثل لله (التوحيد الذاتي: {ليس كمثله شيء})[الشورى/11].
* وهو توحيدي بمعنى أنه يصف الله بكل الصفات التي تعطي الحد الأعلى من الكمال له {له الأسماء الحسنى}[الحشر/24] والأمثال العليا {ولله المثل الأعلى}[النحل/60].
وهو توحيدي، بمعنى أنه يرفض أي فاعل في قبال الله، ويرى أن أي فاعل؛ يأتي بعد الله وفي طوله ـ كما يصطلح ـ وهذا هو معنى {لا حول ولا قوة إلا بالله}.
*وهو كتاب التوحيد بمعنى أنه لا يرى للكائنات هدفاً أساسياً مستقلاً ونهائياً إلا الله.
* وخلال كل ذلك فهو لا يرى للإنسان ـ سواء في حركته التكوينية أو حركته التكليفية والتشريعية ـ هدفاً غير الله.
إن البون يتسع باتساع البعد بين السماء والأرض... بين الإنسان الذي تريده المدارس الفلسفية البشرية وذلك الذي يريده الإسلام. فهناك الكثير من الأشياء التي يقول بها الإسلام والتي تشبه ما يقوله الآخرون، ولكن ليس من زاوية نظر واحدة. إن الإسلام ينظر للأمور دائماً نظرة توحيدية إلهية.
فنحن نعرف أن الإنسان في تجاربه الفلسفية والعلمية توصل إلى وجود قوانين ثابتة غير متغيرة حاكمة في هذا الكون، والقرآن الكريم يقول بهذا الرأي، ولكن ليس بهذا التعبير؛ وإنما يقول به من زاوية إلهية:{فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً}[فاطر/43]. وعلى هذه القاعدة يقبل القرآن مبدأ العدالة، بل هو يعطيه قيمة غير عادية وأهمية خاصة، ولكن لا بعنوان أن العدالة هي هدف نهائي، أو أن العدالة مقدمة ليسعد بها الإنسان في هذه الحياة بهذا الشكل الذي نعرفه من السعادة، بل إنه يعتبر الحياة السعيدة في الدنيا لا يمكن أن تتحقق إلا بالنحو الذي يرضاه الإسلام في ظل نوع من التوحيد العملي، أي أن يكون الإنسان خالصاً لله.
إن إنسان القرآن موجود لا يستطيع تأمين سعادته أحد إلا الله، بمعنى أن الإنسان موجود لا يروي ظمأه إلى السعادة، ولا يؤمن له سد الخلأ، ولا يحقق رضاه الكامل، ولا يقوده في مسيرته الحقيقية؛ إلا الذات الإلهية {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب}[الرعد/28] وهو تعبير عجيب ومعجز! وقد ذكر هؤلاء مثبتاً لهم هذه الصفة وهي اطمئنان قلوبهم بذكر الله... ولكن هل تطمئن قلوب الآخرين بأشياء أخرى؟ كلا إن القرآن ينفي ذلك بعد أن يمهد بذكر كلمة (ألا) التنبيهية! إنه يذكر وينبه ويعلن أمراً هاماً، ويقدم كلمة (بذكر الله) وحقها أن تتأخر نحوياً ولكنه يقدمها لتنفيد الحصر كما يقول أهل البيان، ويعلن أنه بذكر الله لا غير، بنسيان ما عدا الله، تطمئن القلوب، وأن الذي يؤمن سعادة القلب المضطرب الباحث عن الحقيقة ليس إلا الله أما كل شيء عداه فما هو إلاّ مقدمة له، إنه موقف من المواقف الإنسانية في مسيرتها الطويلة لا المقصد النهائي، وحتى العبادة كذلك، إذ يقول {وأقم الصلاة لذكري}[طه/14] وفي آية الصلاة {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}[العنكبوت/45] يذكر القرآن خاصية الصلاة ويقول عن هدفها {ولذكر الله أكبر}[العنكبوت/45].
إن الإسلام يريد الإنسان للعبادة وسبيل التقرب إلى الله والتعرف عليه وذكره. وطبيعي أن يحصل الإنسان على قدرته هنا، إلا أن العلم والقدرة بالنسبة لكل الأشياء أيضاً مقدمة لا أصل. وكذلك تزكية النفس فإنها جميعاً أهداف ثانوية، فهي أهداف لشيء ووسائل لشيء آخر.