في المقابل نجد آية أخرى تذكر بصراحة تامة شيئاً آخر كهدف لبعث الأنبياء، وهو "العدالة الاجتماعية":{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديد ومنافع للناس}(الحديد/25)ـ فما هو هدف البعثة ـ طبق الآية ـ وهي من أفعال الله التي لا يمكن أن تكون بلا هدف؟
إن القرآن يقول بأن البعثة تمت لإقرار العدالة بين الناس فكل الأنبياء جاءوا للعدالة وهنا نجد فلسفة البعثة قد طرحت بشكل آخر من خلال فرضين:
الفرض الأول: إن الهدف الأساس هو إقرار العدالة بين الناس، ولما كانت العدالة الواقعية لا تقوم بين الناس، ـ كما يستدل أمثال الفيلسوف أبو علي بن سينا ـ إلا أن يقوم قانون عادل بينهم، ومثل هذا القانون العادل لا يمكن أن يضعه البشر لعلتين:
الأولى: لأن البشر غير قادر على أن يشخص الحقيقة، ويتخلَّص من الميول والأغراض المصلحية.
والثانية: لعدم وجود ضمان للتطبيق، فإن الطبع الإنساني يدفعه لتقديم نفسه على الغير وتشريع القانون إلىالحد الذي يحقق منافعه، فإذا كان هناك أي ضرر رفضه، وعليه فيجب أن يكون القانون قانوناً يخضع له الإنسان، ومثل هذا القانون لا سبيل له إلا أن يكون من الله بحيث يحس الإنسان من عمق وجدانه بالخوف من عصيانه. ولما كان الأمر كذلك أي لكي تتم العدالة، نحتاج إلى القانون العادل، وهذا القانون يجب أن يكون له ثواب وعقاب موضوعان من قبل الله. ولكي يؤمن الناس بالثواب والعقاب، يجب أن يعرفوا الله. فمعرفة الله صارت عبر عدة وسائط مقدمة لإقرار العدالة. وكذلك فإن العبادات قررت لهذا الفرض، أي لكي لا ينسى الناس مقنن القانون، ويبقوا دائماً على ارتباطهم به، ويتذكروا أنّ لهم رباً يراقبهم، وهو الله الذي شرع القانون العادل لهم.
ووفقاً لمثل هذا السير الفكري ـ ولو بقينا نحن وهذه الآية ـ وجب أن نقول أن الهدف الأصلي من بعثة الأنبياء هو إقرار العدالة بين الناس. وتكون الدعوة إلى الله ثانوية لكي يتعرَّفوا على مقنن القانون، ويحسبوا له حسابه، وإلا فليست لمسألة الدعوة إلى الله ومعرفة الله أصالة، وإنما تقوم على أساس الآنف.