والآن أي هذه الآراء ينبغي قبوله؟ إننا نرى أن القرآن يرفض أي نوع من الشرك وبأي معنى كان. إنه كتاب توحيدي بكل معنى الكلمة:
* توحيدي بمعنى أنه يرفض وجود أي مثل لله (التوحيد الذاتي: {ليس كمثله شيء})[الشورى/11].
* وهو توحيدي بمعنى أنه يصف الله بكل الصفات التي تعطي الحد الأعلى من الكمال له {له الأسماء الحسنى}[الحشر/24] والأمثال العليا {ولله المثل الأعلى}[النحل/60].
وهو توحيدي، بمعنى أنه يرفض أي فاعل في قبال الله، ويرى أن أي فاعل؛ يأتي بعد الله وفي طوله ـ كما يصطلح ـ وهذا هو معنى {لا حول ولا قوة إلا بالله}.
*وهو كتاب التوحيد بمعنى أنه لا يرى للكائنات هدفاً أساسياً مستقلاً ونهائياً إلا الله.
* وخلال كل ذلك فهو لا يرى للإنسان ـ سواء في حركته التكوينية أو حركته التكليفية والتشريعية ـ هدفاً غير الله.
إن البون يتسع باتساع البعد بين السماء والأرض... بين الإنسان الذي تريده المدارس الفلسفية البشرية وذلك الذي يريده الإسلام. فهناك الكثير من الأشياء التي يقول بها الإسلام والتي تشبه ما يقوله الآخرون، ولكن ليس من زاوية نظر واحدة. إن الإسلام ينظر للأمور دائماً نظرة توحيدية إلهية.
فنحن نعرف أن الإنسان في تجاربه الفلسفية والعلمية توصل إلى وجود قوانين ثابتة غير متغيرة حاكمة في هذا الكون، والقرآن الكريم يقول بهذا الرأي، ولكن ليس بهذا التعبير؛ وإنما يقول به من زاوية إلهية:{فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً}[فاطر/43]. وعلى هذه القاعدة يقبل القرآن مبدأ العدالة، بل هو يعطيه قيمة غير عادية وأهمية خاصة، ولكن لا بعنوان أن العدالة هي هدف نهائي، أو أن العدالة مقدمة ليسعد بها الإنسان في هذه الحياة بهذا الشكل الذي نعرفه من السعادة، بل إنه يعتبر الحياة السعيدة في الدنيا لا يمكن أن تتحقق إلا بالنحو الذي يرضاه الإسلام في ظل نوع من التوحيد العملي، أي أن يكون الإنسان خالصاً لله.
إن إنسان القرآن موجود لا يستطيع تأمين سعادته أحد إلا الله، بمعنى أن الإنسان موجود لا يروي ظمأه إلى السعادة، ولا يؤمن له سد الخلأ، ولا يحقق رضاه الكامل، ولا يقوده في مسيرته الحقيقية؛ إلا الذات الإلهية {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب}[الرعد/28] وهو تعبير عجيب ومعجز! وقد ذكر هؤلاء مثبتاً لهم هذه الصفة وهي اطمئنان قلوبهم بذكر الله... ولكن هل تطمئن قلوب الآخرين بأشياء أخرى؟ كلا إن القرآن ينفي ذلك بعد أن يمهد بذكر كلمة (ألا) التنبيهية! إنه يذكر وينبه ويعلن أمراً هاماً، ويقدم كلمة (بذكر الله) وحقها أن تتأخر نحوياً ولكنه يقدمها لتنفيد الحصر كما يقول أهل البيان، ويعلن أنه بذكر الله لا غير، بنسيان ما عدا الله، تطمئن القلوب، وأن الذي يؤمن سعادة القلب المضطرب الباحث عن الحقيقة ليس إلا الله أما كل شيء عداه فما هو إلاّ مقدمة له، إنه موقف من المواقف الإنسانية في مسيرتها الطويلة لا المقصد النهائي، وحتى العبادة كذلك، إذ يقول {وأقم الصلاة لذكري}[طه/14] وفي آية الصلاة {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}[العنكبوت/45] يذكر القرآن خاصية الصلاة ويقول عن هدفها {ولذكر الله أكبر}[العنكبوت/45].
إن الإسلام يريد الإنسان للعبادة وسبيل التقرب إلى الله والتعرف عليه وذكره. وطبيعي أن يحصل الإنسان على قدرته هنا، إلا أن العلم والقدرة بالنسبة لكل الأشياء أيضاً مقدمة لا أصل. وكذلك تزكية النفس فإنها جميعاً أهداف ثانوية، فهي أهداف لشيء ووسائل لشيء آخر.