*- جمعيـــــة العلمــــــاء المسلميـــــــــن :
شهدت مرحلة العشرينات من القرن العشرين نهضة سياسية بالنسبة للجزائريين فبعد التطورات التي شهدها العالم عقب نهاية الحرب العالمية الأولى و بروز نخبة من الجزائريين من مختلف الاتجاهات من النواب، و المصلحين،و العمال المهاجرين بدأ الوعي السياسي يتبلور أكثر فأكثر بتأسيس أحزاب و تشكيلات سياسية متعددة الاتجاهات من بينها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
- ظروف تأسيسه
ظهرت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في ظروف متميزة يمكن اختصارها فيما يلي:
- احتفال فرنسا بالذكرى المئوية للاحتلال، 1830-1930 و مارا فق هذا الاحتفال من افتخار بالقضاء على الشخصية الجزائرية، ومن استفزازات من طرف المعمرين خاصة.
- تجنيس كل المولودين بالجزائر من أبوين أجنبيين و إعطائهم إمتيازات معتبرة في الإدارة و الخدمات.
- الاعتداء الصّارخ على الحريات الأساسية للمواطنين و التضييق على الصحافة الجزائرية و المدارس العربية و محاربة القضاء الإسلامي.
- بروز كتلة من النخبة المثقفة ثقافة فرنسية تدعو إلى إدماج الجزائر و الذوبان في الحضارة الفرنسية.
- تشجيع الجاليات اليهودية للهيمنة على النشاطات الاقتصادية و منحها امتيازات خاصة بعد إعطائها الجنسية الفرنسية.في ظل هذه الظروف تأسّست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين يوم 05 ماي 1931 بنادي الترقي بالعاصمة، وتشكّلت من أبرز العلماء الجزائريين في هذه الفترة منهم: عبد الحميد بن باديس، البشير الإبراهيمي، الطيب العقبي، العربي التبسي، مبارك الميلي، الامين العمودي.وترأس اللجنة التأسيسية السيد عمران إسماعيل، وتمّ تعين مجلس إداري من 13 عضو ورغم غياب الشيخ عبد الحميد بن باديس إلاّ أنه انتخب رئيسا للجمعية ، وأختير الشيخ البشير الإبراهيمي نائبا له، وتحصلت الجمعية على الاعتماد من طرف الإدارة الفرنسية نظرا لليونة برنامجها
- برنامجها
حدّدت جمعية العلماء برنامجها في قانونها الأساسي الذي تضمّن 24 فصلا تناول فيها الخطوط العريضة لعمل الجمعية، وتظهر أهداف الجمعية من خلال قانونها الأساسي ومن خلال نشاطات أعضائها و كتاباتهم. وفي مقدمة هذه الأهداف، المحافظة على الدين الإسلامي ومحاربة الخرافات والبدع و إحياء اللغة العربية وآدابها و تمجيد التاريخ الإسلامي وآثاره ،وقد شهد لها بهذا حتى المعارضين لأفكارها فالسيد فرحات عباس أشار إلى أن أهداف الجمعية تمثلت " في تجديد الإسلام، والصراع ضد المرابطين أداة الاستعمار وتكوين إطارات الثقافة العربية".
وأوضح رئيس الجمعية أهدافها الرئيسية في مقال: دعوة جمعية العلماء المسلمين وأصولها.وأبدت الجمعية موافق واضحة في القضايا السياسية المطروحة فعارضت سياسة الإدماج التي كانت تطالب بها: فيدرالية المنتخبين الجزائريين، بزعامة الدكتور بن جلول وابن التهامي. وفرحات عباس وغيرهم، كما سجلت حضورها الفعال في المؤتمر الإسلامي سنة 1936.
واعتمدت الجمعية في نشاطها على وسائل معروفة كالمسجد، والمدارس الحرة للتعليم والتربية وتكوين الإطارات والنوادي للنشاطات الثقافية وكذا الصحافة لنشر أفكارها وخاصة صحيفتي الشهاب و البصائر.
هذا النشاط المميز للجمعية جعلها في وضع لا يحسد عليه إذ برز معارضون لنشاطاتها فإلى جانب مخططات الإدارة الفرنسية في مواجهة جمعية العلماء،وإغتيال الشيخ محمود كحول نجد معارضة النواب و رجال الزوايا والمرابطين، وكذا المبشرين ورجال الدين المسيحيين
- مسارها السياسي
واصلت الجمعية نشاطها خلال الثلاثينات رغم المضايقات التي تعرّضت لها من طرف الإدارة الاستعمارية ومعارضة خصومها، من خلال المدارس والصحف والنوادي حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية حين امتنعت عن تأييد فرنسا فقّللت من نشاطها وأوقفت صحفها ممّا جعل السلطة الفرنسية تقوم بنفي البشير الإبراهيمي إلى آفلو، وانضمت الجمعية إلى أحباب البيان، التنظيم الذي أسسه فرحات عباس، وبعد الحرب العالمية الثانية واصلت مهمتها الإصلاحية تحت رئاسة البشير الإبراهيمي إلى غاية اندلاع الثورة التحريرية أين أصدر الشيخ الإبراهيمي بيان جمعية العلماء المسلمين من القاهرة بتاريخ 14 نوفمبر 1954 يدعو فيه الشعب إلى الالتفاف حول الثورة، وسنة 1956 أصدرت السلطات الفرنسية حلّ الأحزاب السياسية ومنها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
*- عبد الحميد بن باديس:
ولد عبد الحميد ين باديس في 4 ديسمبر 1889 بمدينة قسنطينة، وكان ينتمي إلى أسرة ميسورة يتصل أصلها بأمراء بني زيري الذين تولوا الحكم وكان من أشهرهم "بولوكين بن مناد" مؤسس مدينة الجزائر ومنهم أيضا "المعز بن باديس" الذي حارب الشيعة الفاطمية. وفي سنة 1903 عين له والده معلم ليقوم به وهو الشيخ "حمدان لونيس" الذي أثر في الطفل ، وكان هذا الشيخ من أتباع الطريقة التيجانية تعلم عليه عبد الحميد مبادئ اللغة العربية والمعارف الإسلامية الأولى ، وبعد ذلك ذهب إلى الكتاب واستظهر القرآن الكريم في وقت قصير، حصل ابن باديس على جائزة الزيتونة سنة 1912 وعلم فيها سنة كما جرت العادة بالنسبة للطلبة الذين أنهوا دراستهم وبعد ذلك انتقل إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، ثم استقر في المدينة المنورة بعض الوقت والتقى فيها بأستاذه الأول الشيخ "حمدان لونيسي" الذي كان مجاورا هناك فأخذه عنه وحاز على لقب "العالم" ثم عاد إلى وطنه وفي طريقه مكث في القاهرة وأخذ عن بعض المشايخ منهم العالم "بالخياط" مقتي الديار المصرية ونال منه إجازة وتعرف على علماء منن مدرسة الإصلاح ولا سيما على الشيخ رشيد رضا وجماعته، وقد خصص الإمام ابن باديس الفترة ما بين 1913 و1925 للتدريس حتى تتوفر شروط النهضة ممن ناحية ويتكون المريدون من ناحية أخرى. فيتمكن من نشر الآراء الجديدة ولم يهمل تعليم الشاب ومحو الأمية لدى الكبار إذ فتح دروسا عامة بقسنطينة في مسجد "سيدي قموش" واعتنى أولا بالعلوم الدينية وفي سنة 1917 توسع مشروعه التعليمي فشمل الأدب والتاريخ والجغرافيا، وساهم معه المعلمون الذين تخرجوا من مدرسته وساعدوه أيضا على تعليم الكبار ليلا بمقر الجمعية الخيرية الإسلامية في قسنطينة، ثم أضاف الى ذلك الاتصال ببقية العالم ولم يظهر أي تعصب ولا قومية ضيقة ضد الثقافات الأجنبية بل رأى من الضروري الإطلاع عليها لمواكبة العصر الذين نعيش فيه ولا سيما فيما بتعلق بالمجال العلمي.
وفي نهاية 1918 أنشأ ابن باديس المدرسة الأولى للبنات في قسنطينة بحي "سيدي بومعزة" وعلم فيه الشيخ مبارك الميلي. وعندما أقبل عليها عدد كبير من التلميذات أضاف إليها ابن باديس نظاما داخليا،
ولخص "ابن باديس" مشروع عمله في ثلاث جمل مشهور "الإسلام ديني _والعربية لغتي_ والجزائر وطني". وعمل على تحقيقه بكل ما لديه من قوة وإخلاص، ولهذا الغرض أسس "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" بتاريخ 5 مايو 1931 في مدينة الجزائر وشارك في الاجتماع الذي جلب ابن باديس وأصحابه ممثلون من مختلف أنحاء القطر وتم انتخاب ابن باديس رئيسا للجمعية وتم انتخاب المجلس الإداري ولها وكان من أعضائه الشيخ "البشير الإبراهيمي" والشيخ "مبارك الميلي" والشيخ "العربي التبسي" والشيخ "الطيب العقبي" وغيرهم، وحددت جمعية العلماء أهدافها في النقاط التالية :
_ التعريف بالإسلام على حقيقته، ومحاربة أعدائه ومحرفيه، والاعتماد على الاجتهاد والمنهج العقلي ورفض التقليد الأعمى على أن يكون القرآن الكريم والسنة النبوية أساس الإصلاح الديني. والتوجيه الإسلامي لا يقبل الخرافات والبدع، ويجب ارتباط النشاط العلمي بالتأمل النظري ولا سيما في محاربة بعض الطرقية التي تحولت إلى أداة التجهيل في يد النظام الاستعماري، فسهلت سياسة الاستبداد والاندماج وهذا ليس في مصلحة الأمة، وفي النهاية يكون خلاص الأمة في توحيد الفكر والعمل الذي أصبح واجبا وطنيا، وتتجسد الوحدة الإسلامية في بناء المدارس والمساجد والنشاط الصحافي والثقافي لنشر الوعي في الأمة.
توفي يوم 16 أبريل 1940 وهو الواحد والخمسين من عمره،
*- الشيخ الطـيـب العــقـبـــي :
ولد ليلة النصف من شعبان سنة 1307 هـ ببلدة "سيدي عقبة" شرقي مدينة بسكرة بنحو عشرين ميلا.
والده هو: محمد بن إبراهيم بن الحاج صالح.
ووالدته: من قرية ليانة القريبة من بلدة خنقة سيدي ناجي في الزاب الشرقي، من أسرة آل خليفة المعروفة هناك بلقب ابن خليفة.
انتقل ـ وهو صبي ـ مع عائلته التي هاجرت كلها إلى الحجاز سنة 1313 هـ وفي عمره ست سنوات.
استقرت العائلة بالمدينة المنورة وفيها نشأ الصبي وتربى وحفظ القرآن برواية حفص، وتعلم مبادئ الإسلام واللغة العربية، وفيها توفي والده سنة 1320 هـ أي بعد أن استقر بها سبع سنوات، وابنه الطفل ما يزال دون الحلم، فتربى يتيما في حجر أمه مع اخوته الصغار، وتسنى له مع ذلك اليتم أن يقرأ العلوم بالحرم النبوي الشريف، العلوم التي كانت تدرس فيه إذ ذاك.
وكما توفي أبوه بالمدينة توفيت أمه وأخته بها، وتوفي عمه وعم أبيه وجل عائلته، ودفنوا بمقبرة البقيع هناك ـ رحمهم الله ـ .
حياته بعد ذلك:
شرع يكتب في الصحف السيارة هنالك، ويقرض الشعر قبل الحرب العالمية الأولى، وكان الحجاز ومكة والمدينة تابعة للخلافة العثمانية في تركيا، فاعتبره رجال تركيا الفتاة من جملة السياسيين أنصار النهضة العربية ضد تركيا، فنفوه من المدينة إلى ( أرض روم ) بتركيا، ثم إلى (الأناضول) مرة أخرى، وذلك بعد ثورة الشريف حسين عليهم بالحجاز، ودام إبعاده أكثر من سنتين.
وبعد انتهاء الحرب العالمية سنة 1918 م ورجوع المبعدين إلى أوطانهم عاد إلى المدينة بعد انتصار الشريف حسين عاهل مكة على الأتراك فتلقاه الشريف حسين بالتجلة والإكرام، وأسند إليه إدارة جريدة القبلة و المطبعة الأميرية، وهما من مشاريع الدولة العربية الناشئة بالحجاز، فتولى إدارتها بنجاح.
ولما لم يستتب الأمن والإستقرار للشريف حسين بسبب ثورات السعوديين عليه، رجع الشيخ الطيب العقبي إلى الجزائر مسقط رأسه وموطن آبائه وأجداده يوم 4 مارس 1920م الموافق لـ 23 محرم 1335 هـ وكان عمره 27 سنة فهو في عز شبابه.
وبعد أن استقر في بلدته "سيدي عقبة" وتفقد أملاك عائلته وسوَّى مشاكلها فيها، استقر في مدينة بسكرة وأخذ يعلن عن أفكاره الإصلاحية السلفية، ويلقي دروس الوعظ والإرشاد بمساجدها، ويحارب البدعة والخرافة والتدجيل، فقامت قيامة الطرقيين ضده، ولم يبال بهم لضعف حججهم وعدم تمكنهم من فهم دينهم كما يجب، والتف حول الشيخ الطيب نخبة المثقفين والرجال الواعين في المنطقة فآزروه وعاونوه، واشتهر من ذلك الحين أمره، وعلا صيته.
وعاوده الحنين إلى الصحافة فأنشأ جريدة الإصلاح ببسكرة بمساعدة أصحابه وأنصاره.
ثم انتقل إلى العاصمة بطلب من جماعة نادي الترقي و الجمعية الخيرية به، قبل تكوين جمعية العلماء المسلمين، وأصبح واعظا مرشدا في الجامع الجديد بالعاصمة، ومحاضرا رسميا في النادي المذكور.
وبعد تأسيس جمعية العلماء سنة 1931 م وكان من بين مؤسسيها وأعضاء مكتبها الإداري الدائم، وكان نادي الترقي مقرها الرسمي، واعتبر الشيخ الطيب أحد أساطينها الكبار الثلاثة:" ابن باديس، والعقبي والإبراهيمي" وتوزعوا على العمالات الثلاث إذ ذاك يمثل كل واحد الجمعية في عمالته وكان مقرها الأول مدينة قسنطينة، ومقرها الثاني العاصمة، ومقر ها الثالث تلمسان. وبقية أعضاء الجمعية ومشايخها في كل عمالة يعودون إلى ممثلها في تلك العمالة،.
وكان الشيخ الطيب العقبي في ذلك الحين داعية الغصلاح بحق وصدق، وكان صيته أعلى من غيره، إذ كان شعلة متقدة لا تخبو من ذكاء وطاقة حية لا تفتر من نشاط وعطاء في العاصمة وضواحيها، كما كان من قبل في بسكرة ونواحيها، يعرفه الخاص والعام والعدو والصديق.
وفي عهد المؤتمر الإسلامي الجزائري الذي دعا له ابن باديس وتكون سنة 1936 م لجمع طبقات الشعب كلها في كتلة واحدة، وأيده النواب المسلمون والأحزاب والمنظمات، فانظموا للمؤتمر، وأصبحت هذه التشكيلة تمثل الشعب الجزائري كله بجميع فئاته وطبقاته، ومثله الشيخ العقبي خير تمثيل في لجانه واجتماعاته وفي وفده إلى فرنسا لتقديم مطالب الشعب الجزائري إلى الحكومة الفرنسية.
كان ذلك في عهد حكومة الواجهة الشعبية أو الجبهة الشعبية وهي حكومة اشتراكية يسارية تنفس في ظلها أهالي المستعمرات بعض الشيء ومن بينهم الشعب الجزائري ولكن كما يقول الشاعر:
وللمستعمرين وإن لانوا ** قلوب كالحجارة لا ترق
ضاقوا ذرعا بهذا التكتل وراء المؤتمر، وهذا الاتحاد المفاجئ الذي لم يألفوه في هذا الشعب الذي مزقوا وحدته وقضوا على ترابطه، فكادوا له المكائد لتفريقه وتشتيته، وكان من بين المكائد اغتيال الشيخ ابن دالي كحول مفتي المالكية بالعاصمة، واتهام الشيخ العقبي وعباس التركي بالتحريض على قتله، ثم إلقاء القبض عليه وعلى عباس التركي وزجهما في سجن باربروس ـ سركاجي ـ مع المجرمين اللصوص والقتلة، ثم قدما للمحاكمة كمجرمين خطيرين سعيا في قتل أحد أعوان فرنسا وصنائعها الكبار، وهم يقصدون بذلك تلويث سمعة الشيخ الطيب العقبي وجماعة العلماء بالإجرام والفتك وسفك الدماء، ثم التضييق عليه وعليهم، وتنفير الناس منهم، وتفريق الجمع وصدع الشمل، لذلك التكتل وراء المؤتمر، وبالفعل انفصل النواب عن العلماء وعلى رأسهم الرئيس ابن جلول، ثم رفضت مطالب وفد المؤتمر الذي سافر إلى باريس وعاد بخفي حنين، وتشتت المؤتمر، وعكف الشيخ العقبي بعد ذلك الامتحان العسير في السجن وفي المحاكمة، ولما برأت ساحته العدالة وأفرجوا عنه لزم بيته مدة واعتدل في دعوته الدينية وتخلى عن السياسة وعن التعرض للسلطات الحاكمة، فلما جاءت الحرب العالمية الثانية سنة 1936 م رغب من جمعية العلماء أن تقدم برقية شواهد الولاء والإخلاص للحكومة تقية منه وحفاظا على الجمعية فيما يرى كما فعلت الهيئات والشخصيات لكي لا يقضى على الجمعية في الحرب، ولكن اقتراحه هذا لم يحض بالقبول ورفض من طرف الأغلبية، فاعتزل الشيخ الجمعية، وتقلصت حركته وسمعته، ولازم بيته وناديه إلى أن توفاه الله سنة 1960 م في خضم حرب التحرير المباركة .
منقول