لالة فاطمة نسومر (1830-1863)
تظل « لالا فاطمة نسومر » نموذجاً فذاً لكفاح المرأة الجزائرية بتمردها
على الظلم والطغيان ، وأسطورة تروى جيلا بعد جيل ،.فهذه المرأة استطاعت
بكل ما تملك الأنثى من سلاح أن تقهر أعلى الرتب العسكرية في الجيش الفرنسي
الاستعماري الذي أراد أن يقتحم عرين اللبؤة ،ناهيك عما امتازت به من الأدب
والتصوف والذكاء الخارق ، وما انفردت به من بطولة وشجاعة ودراية وحنكة في
إدارة المعارك ، وهي التي واجهت عشرة جنرالات من قادة الجيش الفرنسي
فلقنتهم دروس البطولة والفروسية . فهي قد نشأت في أسرة تنتمي في سلوكها
الاجتماعي والديني إلى الطريقة الرحمانية ، فأبوها سيدي « محمد بن عيسى »
مقدم الشيخ الطريقة الرحمانية ، وكانت له مكانة مرموقة بين أهله وكان
يقصده العامة والخاصة لطلب المشورة وأمها هي لالا خديجة التي تسمى بها
جبال جرجرة بالجزائر .
المولد و النشأة:
ولدت لالا فاطمة بقرية ورجة سنة 1246ه/1830م وتربت نشأة دينية. لها أربعة
إخوة أكبرهم سي الطاهر. و تذكر المصادر التاريخية ما كان للمرأة من خصائص
تميزها عن بنات جبلها، من سحر الجمال و رقة الأدب و الذكاء الخارق.
نشأت لالا فاطمة نسومر في أحضان أسرة تنتمي في سلوكها الإجتماعي و الديني
إلى الطريقة الرحمانية، أبوها سيدي محمد بن عيسى مقدم زاوية الشيخ سيدي
احمد امزيان شيخ الطريقة الرحمانية. كان يحظى بالمكانة المرموقة بين أهله،
إذ كثيرا ما كان يقصده العامة و الخاصة لطلب النصح و تلقي الطريقة ، أما
أمها فهي لالا خديجة التي تسمى بها جبل جرجرة.
و عند بلوغها السادسة عشر من عمرها زوجها أبوها من المسمى يحي ناث إيخولاف
إذ قبلت به على مضض بعدما رفضت العديد من الرجال الذين تقدموا لخطبتها من
قبل ، لكن عندما زفت إليه تظاهرت بالمرض و أظهرت كأن بها مسّ من الجنون
فأعادها إلى منزل والدها و رفض أن يطلقها فبقيت في عصمته طوال حياتها.
آثرت حياة التنسك و الانقطاع و التفرغ للعباة، كما تفقهت في علوم الدين و
تولت شؤون الزاوية الرحمانية بورجة. و بعد وفاة أبيها وجدت لالا فاطمة
نسومر نفسها وحيدة منعزلة عن الناس فتركت مسقط رأسها و توجهت إلى قرية
سومر أين يقطن أخوها الأكبر سي الطاهر، و إلى هذه القرية نسبت .تأثرت
لالاّ فاطمة نسومر بأخيها الذي ألّم بمختلف العلوم الدينية و الدنيوية مما
أهله لأن يصبح مقدما للزاوية الرحمانية في المنطقة و أخذت عنه مختلف
العلوم الدينية، ذاع صيتها في جميع أنحاء القبائل. قاومت الاستعمار
الفرنسي مقاومة عنيفة أبدت خلالها شجاعة و بطولة منفردتين، توفيت في
سبتمبر 1863، عن عمر يناهز 33 سنة.
جهادها ضد الغزو الفرنسي:
برهنت فاطمة على أن قيادة المقاومة الجزائرية ليس حكر على الرجال فقط بل شاركت فيها النساء، و فاطمة نسومر
شبت منذ نعيم أظافرها على مقت الاستعمار و مقاومتها له رغم تصوفها و
تفرغها للعبادة و التبحر في علوم الدين التنجيم، إلا أن هذا لم يمنعها من
تتبع أخبار ما يحدث في بلاد القبائل من مقاومة زحف الغزاة الفرنسيين و
المعارك التي وقعت بالمنطقة لا سيما معركة تادمايت التي قادها المجاهد
الجزائري الحاج عمر بن زعموم ضد قوات الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال بيجو
سنة 1844، كما أنها لم تكن غافلة على تمركز الغزاة الفرنسيين في تيزي وزو
بين 1845-1846، و في دلس 1847 تم محاولة الجنرال روندون من دخول الأربعاء
ناث إيراثن عام 1850التي هزم فيها هزيمة منكرة . و لما واتتها الظروف
انضمت إلى المقاومة حيث شاركت بجانب بوبغلة في المقاومة و الدفاع عن منطقة
جرجرة و في صد هجومات الاستعمار على أربعاء ناث إيراثن فقطعت عليه طريق
المواصلات و لهذا انضم إليها عدد من قادة الأعراش و شيوخ الزوايا و القرى،
و لعل أشهر معركة قادتها فاطمة نسومر هي تلك التي خاضتها إلى جانب الشريف
بوبغلة (محمد بن عبد الله) في مواجهة الجيوش الفرنسية الزاحفة بقيادة
الجنرالين روندون و ماك ماهون فكانت المواجهة الأولى بربوة تمزقيدة حيث
أبديا استماتة منقطعة النظير، إلا أن عدم تكافؤ القوات عدة وعددا إضطر
الشريف بوبغلة بنصيحة من فاطمة نسومر على الإنسحاب نحو بني يني ، وهناك
دعيا إلى الجهاد المقدس فاستجاب لهما شيوخ الزوايا و وكالاء مقامات أولياء
الله فجندوا الطلبة و المريدين و اتباعهم واتجهوا نحو ناحية واضية لمواجهة
زحف العدو على قراها بقيادة الجنرالين زوندون و يوسف التركي و معهما
الباشا آغة الخائن الجودي، فاحتدمت المعركة وتلقت قوات العدو هزيمة نكراء،
و تمكنت لالا فاطمة نسومر من قتل الخائن الجودي بيدها كما استطاعت أن تنقذ
من موت محقق زميلها في السلاح الشريف بوبغلة حينما سقط جريحا في المعركة.
بالرغم من الهزيمة النكراء التي منيت بها قوات روندون بتشكرت ، إلا أن ذلك
لم يثنه من مواصلة التغلغل بجبال جرجرة، فاحتل عزازقة في سنة 1854 فوزع
الأراضي الخصبة على المعمّرين الوافدين معه، و أنشأ معسكرات في كل المناطق
التي تمكّن منها، وواصل هجومه على كل المنطقة . بالرغم من التغلغل والزحف
لم يثبّط عزيمة لالة فاطمة نسومر من مواصلة هجوماتها الخاطفة على القواة
الغازية فحققت انتصارات أخرى ضد العدو بنواحي يللتن و الأربعاء و تخلجت و
عين تاوريغ و توريرت موسى، مما أدى بالقوات الفرنسية إلى الاستنجاد بقوات
جديدة و عتاد حديث، إضطرت على إثرها فاطمة نسومر إلى إعطاء الأوامر
بالإنسحاب لقواتها إلى قرية تاخليجت ناث عيسو، لا سيما بعد اتبّاع قوات
الاحتلال أسلوب التدمير و الإبادة الجماعية، بقتل كل أفراد العائلات دون
تمييز و لارحمة.
و لم يكن انسحاب فاطمة نسومر انهزام أو تقهقر أمام العدو أو تحصننا فقط بل
لتكوين فرق سريعة من المجاهدين لضرب مؤخرات العدو الفرنسي و قطع طرق
المواصلات و الإمدادات عليه.
الشيء الذي أقلق جنرالات الجيش الفرنسي و على رأسهم روندون المعزز بدعم
قواة الجنرال ماكمهون القادمة من قسنطينة . خشي هذا الجنرال من تحطم
معنويات جيوشه أمام هجمات فاطمة نسومر، فجند جيشا قوامه 45 ألف رجل
بقيادته شخصيا، اتجه به صوب قرية آيت تسورغ حيث تتمركز قوات فاطمة نسومر
المتكونة من جيش من المتطوعين قوامه 7000 رجل و عدد من النساء وعندما
احتدمت الحرب بين الطرفين خرجت فاطمة في مقدمة الجميع تلبس لباسا حريريا
أحمر كان له الأثر البالغ في رعب عناصر جيش الاحتلال.
على الرغم من المقاومة البطولية للمجاهدين بقيادة فاطمة نسومر فإن
الانهزام كان حتميا نظرا للفارق الكبير في العدد و العدة بين قوات
الطرفين، الأمر الذي دفع فاطمة نسومر إلى طرح مسألة المفاوضات و إيقاف
الحرب بشروط قبلها الطرفان.
إلا أن السلطات الاستعمارية كعادتها نقضت العهود ،إذ غدرت بأعضاء الوفد
المفاوض بمجرد خروجهم من المعسكر حيث تمّ اعتقالهم جميعا ، ثم أمر الجنرال
روندون بمحاصرة ملجأ لالا فاطمة نسومر و تم أسرها مع عدد من النساء.
و خوفا من تجدد الثورة بجبال جرجرة أبعدت لالا فاطمة نسومر مع 30 شخصا من
رجال و نساء إلى زاوية بني سليمان بتابلاط و بقيت هناك لمدة سبع سنوات إلى
أن وافتها المنية عن عمر يناهز 33 سنة ، على إثر مرض عضال تسبب في شللها.
رحم الله البطلة المقاومة لالا فاطمة نسومر و أسكنها فسيح جنانه.